بعض مما يثير الدهشة فيما يطرح هو القياس الخاطئ على نماذج غير مكتملة، البعض يقول لك لا نريد نظاما رئاسيا لأننا جربناه وثبت فشله، يقولون لك إن مشروعات الإسلام الأيديولوجى فشلت فى المنطقة، وأننا جربنا الاشتراكية لعقود وثبت فشلها، وجربنا الليبرالية لعقود وثبت فشلها، وسرنا فى طريق الاقتصاد الحر والنظام الرأسمالى وثبت فشله، والحقيقة أن كل ما يقال أمامك يبدو صحيحا فى جانب، لكن كل من يطرح أمامك هذه الأطروحات ليدعم وجهة نظر أو ينال من وجهة نظر أخرى يغفل أن شعوبنا وإن كانت جربت كل ذلك لكنها لم تجرب الديمقراطية.
عندما تغيب الديمقراطية عن أى طرح مهما كانت روعته ينتهى ذات النهاية التى انتهت إليها الاشتراكية أو التجارب الإسلامية فى المنطقة، أو حتى الأنظمة الرئاسية فى كل العالم الثالث التى احتفظت بميراث الحزب الواحد حتى لو فى إطار ديكورى جديد.
والديمقراطية ليست فقط صندوق اقتراع نزيه، لكنها فى المقام الأول مجموعة قيم أساسية تفرض على المجتمع أن يحترم اختيار الصندوق ويحمى حق الأغلبية فى الحكم، كما تفرض على الأغلبية حماية حقوق الأقلية فى الاختلاف، وتضمن آليات تداول السلطة، وحماية الحريات العامة بكل ما تندرج تحته من حماية للحريات الدينية والثقافية والاجتماعية وكفالة المساواة الكاملة بين المواطنين دون تمييز على أى معيار دينى أو جنسى أو عرقى وكل مكونات حقوق الإنسان، إلى جانب قوة آليات المحاسبة ونفاذها والسيادة الحقيقية للقانون.
لذلك ستجد كيانات اشتراكية فشلت فى المنطقة لكنها ناجحة فى العالم، والأحزاب الاشتراكية ذات نفوذ وتأثير وتجربة ملهمة فى الحكم حتى داخل دول الاتحاد الأوروبى خلال العقدين الأخيرين، وستجد أنظمة رئاسية فشلت فى المنطقة ونجحت فى العالم، وحتى نماذج إسلامية فاشلة بكل المقاييس فى عدة مناطق من الجغرافيا الإسلامية، لكنها ناجحة بكل المقاييس وملهمة كما فى تركيا.
الديمقراطية إذن كقيم وممارسة هى كلمة السر فى النجاح وليست الأيديولوجيا بالضرورة، فأمامك ألف مثل على أن وجود الأيديولوجيا وحدها لا يكفى للنجاح فى مجتمعات غير ديمقراطية، ولا تمثل الديمقراطية بمعناها الشامل جزءا من ثقافتها وتكوينها.
لا يكفى إذن أن تصدق كل من يقول لك جربنا كذا وفشلنا.. لأنه غالبا يريد إعادة إنتاج ذات الأدوات القديمة بأسماء ووجوه جديدة على غرار استبدال «أمن الدولة بالأمن الوطنى»، لأننا فى الحقيقة جربنا كل شىء بالفعل لكننا لم نجرب الديمقراطية، لذلك ندفع أثمانا باهظة فى التغيير كل مرة، ومطلوب منك بدلا من الانشغال بتبديل الوجوه والاستقطابات السياسية والأيديولوجية، الانشغال ببناء الديمقراطية وحمايتها، وقتها ستكون التجارب أقل كلفة وسيكون الوطن للجميع.